أما إشاعة عورات الآخرين فسبب لتنافر القلوب، وانتشار البغضاء، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: « « من رأى عورة فسترها، كان كمن استحيا موؤودة من قبرها » » [6] ، أي: كان ثوابه كثواب من أحيا موؤودة؛ لأن الساتر دفع عن المستور الفضيحة التي هي كالموت فكأنه أحياه. ثانياً: ستر العاصي فيه تهيئة له للشعور بالندم والخوف من العقاب، فيدفعه للتوبة، أما لو فُضِح فسيدفعه ذلك إلى مزيد من الآثام، ولا يبالي بعدها بالمجاهرة أو المفاخرة بالذنب. ثالثاً: الســتر يحفـظ كيـان الأخلاق لأن فضح الناس - لا سيما الصالحين إن وقعت منهم الزلات - قد يجرِّئ كثيراً من عوام الناس ومرضى القلوب على اقتراف المعاصي. رابعاً: الستر من أرقى الطاعات، وسبب للستر في الدنيا والآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « « من ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة » » [7]. خامساً: الستر على الصالحين دليل على شرف الطبع، أما فضحهم فدليل على خسة الطبع، وعدم الإنصاف والرحمة؛ إذ ليس من العدل أن يتغاضى عن حسناته كلها حتى إذا بدرت منه زلة فضحه، وكشف ستر الله الذي أرخاه على عبده، قال ابن القيم: « ومن الناس مَن طبعه طبع خنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمَّه، وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ فلا يحفظها، ولا ينقلها، ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد بُغيته وما يناسبها، فجعلها فاكهته ونقله » [8].
حول الموقع: ( شبكة علمية دعوية على منهج أهل السنة والجماعة) تَمَسَّكْ بِحَبْلِ الله وَاتَّبِعِ الْهُدَى وَلَا تَكُ بِدْعِيًّا لَعَلَّكَ تُفْلِحُ وَدِنْ بِكِتَابِ الله وَالسُّنَنِ الَّتِي أَتَتْ عَنْ رَسُولِ الله تَنْجُو وَتَرْبَحُ
غيرَ أنَّ حَدِيثَ أَبِي أُسَامَةَ ليسَ فيه ذِكْرُ التَّيْسِيرِ علَى المُعْسِرِ) [المصدر: صحيح مسلم| خلاصة حكم المحدث: صحيح] [١].
أما المجاهرة بالذنب ففيها سوآت كثيرة؛ إذ إن المجاهر يستذله الناس ويستخفُّون به؛ لأن المعاصي تُذل أهلها، وفي مجاهرته استخفاف بحق الله ورسوله، وضرب من العناد لهما [10]. أضف لذلك ما يتولد في نفس المجاهر من شعور بالرضا بالمعصية، وما يفوته من المعافاة والستر في الدنيا والآخرة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: « « كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان! عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه » » [11]. نماذج ومواقف في الستر: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى والقدوة الصالحة في الستر، ورغَّب فيه بسُنته وسيرته، فقد كان حريصاً على كتم الزلات، وإذا رأى شيئاً يكرهه من أصحابه عرَّض فقال: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أو: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا [12]. وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه من يقرُّ بذنب، أعرض عنه حتى يكرر السؤال، ثم يلقنه الحجة في رفع الحد عنه، لعله يذهب فيتوب ويستر على نفسه، فهذا ماعز بن مالك الأسلمي، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقر بالزنا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « « لعلك قبَّلت، أو غمزت، أو نظرت » » ، وردَّه النبي صلى الله عليه وسلم مراراً، حتى أقر في الرابعة فأقام عليه الحد [13].
أخيراً: فإن الستر من أبرز معالم المنظومة الأخلاقية في الإسلام، تلك المنظومة التي شادت بها أمتنا حضارة كانت مضرب المثل، سادت بها الدنيا ردحاً طويلاً من الزمن، فما أحوج أمتنا في عصر الفضائيات إلى ستر الزلات وإقالة العثرات لترضي ربها وتسترد مجدها. [1] أبو داود (4012)، والنسائي (406). [2] البخاري (4685)، ومسلم (2768). [3] الموسوعة الفقهية الكويتية: 24/ 169، مطابع دار الصفوة، مصر ، ط. الأولى. [4] شرح النووي على مسلم: 16/ 135، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط. الثانية. [5] المرجع السابق. [6] أبو داود (4891)، وأحمد (17447) واللفظ له. [7] مسلم (2699). [8] مدارج السالكين لابن القيم: 1/ 406، دار الكتاب العربي، بيروت، ط. الثالثة. [9] البيهقي (17574)، والحاكم (7615) وصححه الذهبي ووافقه. [10] شرح صحيح البخاري لابن بطال: 9/ 263، مكتبة الرشد، الرياض. [11] البخاري (6069)، ومسلم (2990). [12] انظر أمثلة لذلك في: البخاري (456، 750، 6101)، ومسلم (1401، 2356). [13] البخاري (6824)، ومسلم (1695). [14] أبو داود (4377)، والنسائي في الكبرى (7236). [15] مصنف عبد الرزاق (18931). [16] المرجع السابق (9371). [17] مكارم الأخلاق للخرائطي (451)، دار الآفاق العربية، القاهرة.
^ أ ب ت الدرر السنية، "شرح حديث من ستر على مسلم" ، الدرر السنية الموسوعة الفقهيّة ، اطّلع عليه بتاريخ 12/11/2021. بتصرّف. ^ أ ب سماحة الشيخ الامام ابن باز رحمه الله، "معنى حديث: (من ستر على مسلم... )" ، موقع سماحة الشيخ الإمام ابن باز ، اطّلع عليه بتاريخ 12/11/2021. ^ أ ب ت محمد الطايع (14/3/2010)، "ستر المسلم" ، شبكة الألوكة ، اطّلع عليه بتاريخ 12/11/2021. ↑ محمد الطايع (21/5/2014)، "ستر المسلم" ، طريق الإسلام ، اطّلع عليه بتاريخ 12/11/2021. ↑ الدرر السنية، "صور السَّتر" ، الدرر السنية موسوعة الأخلاق ، اطّلع عليه بتاريخ 12/11/2021.